U3F1ZWV6ZTM1NTgxMTY5NjA2OTA3X0ZyZWUyMjQ0NzY3ODUyMjQwMg==

خطبة الجمعة من المسجد النبوي 11 ذوالعقدة 1443

خطبة الجمعة من المسجد النبوي 11 ذوالعقدة 1443

ألقى فضيلة الشيخ / عبدالمحسن بن محمد القاسم من منبر المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة خطبة الجمعة 11 ذوالقعدة 1443 بعنوان العلم بالله أعلى درجات اليقين والإيمان أكتب ما تحدث فيها .

صورة الشيخ عبدالمحسن بن محمد القاسم

عنوان الخطبة العلم بالله أعلى درجات اليقين

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرًا. 

أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى، ورَاقِبُوه في السِّرِّ والنَّجْوَى. 

أيها المسلمون: العلمُ باللهِ منزلةٌ عظيمةٌ، وأعلى درجات الإيمان تحقيقُ اليقينِ باللهِ ورسولِه ودِينِه، وذلك برسوخ العلم في جَذْر القلبِ حتى لا تُضعِفَه شبهةٌ ولا تُؤثِّر فيه فتنةٌ، ومنزلةُ اليقينِ من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، قال ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "اليقينُ الإيمانُ كلُّه، وأولُ اليقينِ اليقينُ بالرب، كما قالت رسل الله لأقوامهم: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[إِبْرَاهِيمَ: 10]؛ أي: أنتم تعلمون وتُقِرُّون أنَّه ليس في وجود الله ووحدانيته شكٌّ قطُّ، وأرفعُ الناسِ منزلةً أهلُ اليقينِ، ولَمَّا أراد اللهُ أن يزيد خليلُه إبراهيمَ -عليه السلام- إيمانًا مع قوة إيمانه أراه ملكوت السماوات والأرض ليصل إلى تلك المنزلة الرفيعة، قال جل شأنه: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)[الْأَنْعَامِ: 75]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أَيْ: نُبيِّن له وجهَ الدلالة في نظره إلى خَلقِهما على وحدانية الله -عز وجل- في مُلكِه وخَلقِه، وأنَّه لا إلهَ غيرُه ولا ربَّ سِوَاهُ".

والعبادة مع اليقين ولو قلَّت ترفع العبد درجات، قال بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله-: "ما سبقهم أبو بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقَر؛ -أي: سَكَن وثَبَتَ في قلبه-".

وخصَّ اللهُ أهلَ اليقين بالهدى والفَلَاح من بين العالمينَ، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الْبَقَرَةِ: 4-5]، وهم المنتفِعون بالنظر في الآيات والبراهين، قال عز وجل: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ)[الذَّارِيَاتِ: 20]. 

ومَنْ باشَر اليقينَ قلبُه اكتملَتْ فيه عباداتُ القلب التي يحبها الله على أكمل وجه؛ من الخوف والرجاء والتوكل وغيرها، قال ابن القيم -رحمه الله-: "الإيمانُ قلبُ الإسلامِ ولُبُّه، واليقينُ قلبُ الإيمانِ وَلُبُّه"، والله فطَر العبادَ على معرفته والإقرار به، وربوبيتُه تستلزِم ألوهيتَه، وكلُّ مخلوق يجد في نفسه ضرورةً إلى توحيده والإقرار بوجوده والتألُّه له، قال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)[الرُّومِ: 30]، وحثَّ اللهُ على النظر في الآيات الدالَّة عليه؛ (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[يُونُسَ: 101]. 

وطُرُقُ معرفةِ اللهِ والاستدلالِ على وجوده واستحقاقه العبادة لا حصرَ لها، فله في كل شيء آية، وكل ما في الكون يدل عليه، قال تعالى: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرَّعْدِ: 2]، ومن أعظم الأدلة على وجوده مخلوقاته، فلا شيء في الكون إلا والله خالقه؛ إذ استقرَّ في العقول والفِطَر كُلِّها أنَّ المخلوقَ لا يَخلُق نفسَه، ولا يوجَد من غير مُوجِد، وأن المسبِّب مرتبِط بسببه؛ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ)[الطُّورِ: 35-36]، والبعوضة مع صغرها والسموات على كبرها دلت على عظمته؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)[الْبَقَرَةِ: 26]، ومخلوقاته الكثيرة آيات باهرة تستلزم الدلالة على وجوده، وتدل على كمال صفاته وأفعاله، أنشأ الخلق من عدم، وخلق الأعيان وصفاتها، ونقلها في أطوارها وصرفها في أحوالها؛ (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 4]، وجعَل تغيُّرَ صفاتها مشاهَدةً بالأبصار؛ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[آلِ عِمْرَانِ: 190]، خلَق أرضًا مبسوطةً مهيأةً للضرب فيها، مثبتة بالجبال الرواسي؛ لئلَّا تميدَ بمَنْ عليها، (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)[لُقْمَانَ: 10]، من حَبّ، وأعناب، وزيتون، ورمان، وحدائق، وفواكه، تُسقى بماء واحد ولونها وطعمها مختلف.

والأنعام أنواع عجيبة وأصناف غريبة، تُشبِع آكِلَها، وتَحمِل رَاكِبَها، وتُغنِي مَالِكَها؛ (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)[غَافِرٍ: 79]، وتُبهِج الناظرَ إليها؛ (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)[النَّحْلِ: 6]، وتحمل الأثقال وتنقل بين البلدان، جلودها لباس، وأصوافها دفء، وأشعارها زينة؛ (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)[لُقْمَانَ: 11]، والبحار فيها العجاب، مليئة بالأرزاق والكنوز واللآلئ والجواهر، وتجري على ظهورها فلك مشحونة بأنواع الحاجات، تلطمها الأمواج من كل جانب وهي كالجبال الشامخات، الناظر إليها يوحد الله؛ (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[فَاطِرٍ: 12]. 

وسماءٌ مرفوعةٌ مزيَّنةٌ بالكواكب والنجوم، جعَلَها علاماتٍ على الاتجاهات والأوقات، تهدي الحائرينَ في ظلمات البر والبحر، وشمسٌ عظيمةٌ ينتفع الخلقُ بحَرِّها، وقمر منير يُضيء الليلَ ويَسُرُّ الناظرَ ويُرشِد الحائرَ، وفي نفسِ الإنسانِ أعظمُ الدليلِ على خَالِقِه، خلَقَه بعدَ العدمِ من ماء مهين لا قيمةَ له، فصيَّره لَحمًا وعظامًا، وأنشأه خلقًا آخَر، يسمع ويبصر وينطق ويسكت ويأخذ ويعطي ويذهب ويجيء، علمه بعد الجهل وأغناه بعد الفقر، وجمله بالعقل وهداه إلى مصالحه، وأحسن خلقه ورفع شأنه، وسخر له كل شيء من حوله؛ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فُصِّلَتْ: 53]. 

ومع خلقه الخلق أتقَن صُنعَه وأحكَمَه وجمَّلَه، وراعى مصالحَ العباد فيما خلق، وعنايته بخلقه ظاهرة في تناسب أجزائها، وتكامل أنواعها؛ (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50]، ومن شواهد وجوده انتظام الكون الذي أبدعه، وجريانه على سنن لا تتبدل ولا تتغير، لا عبث ولا فوضى ولا اختلال ولا فساد؛ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[يس: 40]، فلا نظام في الكون أدق مما وضع لخلقه وشاء لعباده، خلَق المتضادات ليكمل النفع، وجمع المتقابلات لتظهر الحكمة، ليل ونهار وحر وبرد، وظلمة وضياء، ومع ذلك فكل شيء بقدر، ويجري على وزن دقيق، فلا تفاوت ولا تعارض؛ (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)[الْمُلْكِ: 3]. 

والله قسَّم الأرزاق وأعطى الحواسَّ والقُوى، ووهَب العقولَ والعلومَ، وهَدَى كلَّ شيء إلى ما به قِوام أمرِه واستقامةُ عَيشِه؛ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)[الْأَعْلَى: 2-3]، والطيور كلَّ يوم تغدو خماصًا جائعةً، وتروح بطانًا قد شَبِعَتْ، والحوت في قاع البحر لا يضل عن رزقه، والنحل تأكل من كل الثمرات وتتَّخِذ من رؤوسِ الجبالِ البيوتَ، والنمل في جحورها تختزن أنفع القوت، ورزقُه واصلٌ إلى الأجنة في بطون الأمهات، وإلى الوحش في أطراف الفلوات، وأفعاله -سبحانه- لا يَقدِر عليها غيرُه، ولا يُشارِكه فيها سِوَاهُ، يُحيي ويميت ويُخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وهو (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)[الْأَنْعَامِ: 96]، تحدى من كفر به أن ينازعوه في خلقه أو يعارضوه في فعله؛ ليظهر عجزهم ويبين ضعفهم؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)[الْحَجِّ: 73]، وتحداهم أن يأتوا بمثل كلامه أو بشيء من مثله، فلم يمكنهم؛ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الْبَقَرَةِ: 23].

وكل ما في الكون من متحرك وساكن وظاهر وخفي وكبير وصغير فهو دليل على وجود خالقه وعلى كمال عِلمه وقدرته، ودقة صُنعه وخبرته وعموم حكمته، وسعة رحمته، وآثار صفات جَلاله وجَماله تُنادي بوجودِه وكمالِه في كل ذرَّةٍ من ذرات خَلِيقته، وتتجلَّى ربوبيتُه لمخلوقاته في افتقارها إليه، وكلُّ موجودٍ سِوَاهُ فهو مُوجِدُه، وكلُّ حادثٍ في الكون فهو مُحدِثُه. 

وممَّا يُورِث اليقينَ بالله التأملُ في شريعته التي أحكمها غايةَ الإحكام، المشتَمِلة على أصدق الأخبار وأعدل الأحكام، وسير الأنبياء تزيد في اليقين بوجود الله؛ فهم متفقون على الأمر بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، وكل ما جاؤوا به موافق للعقول السليمة والفِطَر المستقيمة، والمصالح التي أتوا بتحصيلها يعجز عن إدراكها البشر، وليس في الدنيا خير ولا بِرّ إلا وهو من آثار ما أتوا به من عند ربهم، وكل نبي أيده الله بآية باهرة تخضع لها الأعناق؛ فهي براهين تهدي إلى خالقهم، ودلائل تستلزم صدقهم، وطلب اليقين وتثبيته شأن الأنبياء؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[الْبَقَرَةِ: 260]، قال البغوي -رحمه الله-: "أي: ليسكن قلبي إلى المعايَنة والمشاهَدة؛ أراد أن يصير له علم اليقين وعين اليقين؛ لأن الخبر ليس كالمعايَنة". 

وموسى -عليه السلام- ناظَر فرعونَ لَمَّا جحَد ربوبيةَ اللهِ وادعاها لنفسه، فقَطَع حُجَّتَه؛ (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 23-24]. 

وأكرمُ الرسلِ وأعمُّهم رسالةً وأقواهم برهانًا نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَنْ طالَع سيرتَه عرَف شمائلَه وصفاته، أيقن أنَّه نبي مؤيَّد من خالقه، والقرآن الذي جاء به متضمن لأعظم البراهين، وآياته أعظم مادة من مواد اليقين؛ (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 20]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "لو أردنا أن نستوعب ما في آيات الله المشهورة من العجائب والدلالات الشاهدة لله، بأن الله الذي لا إلهَ إلَّا هو الذي ليس كمثله شيء، وأنَّه الذي لا أعظم منه ولا أكمل منه، ولا أبَرَّ ولا ألطف، لعجزنا نحن والأولون والآخِرون عن معرفة أدنى عشر معشار ذلك". 

والعبدُ عُرضةٌ للفتن والشيطان يسعى لقَدْح زِناد الشكِّ في القلوب وزعزعةِ اليقينِ فيها، قال الذهبي -رحمه الله-: "وأئمةُ السلفِ على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشُّبَه خطَّافة"، والله جعل الفرح والسرور في اليقين والرضا، وجعل الهمَّ والحزنَ في الشك والسخط، ومَنْ شكَّ في وجود ربه الذي خلقه أو كابر ما في فطرته من اليقين بربوبيته كان صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، ومن أنكر ربوبية الله له فإنما يجحد ما استيقنَتْه نفسُه؛ قال سبحانه: (وَجَحَدُوا بها وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النَّمْلِ: 14]. 

والعبد مسؤول عن دينه وعليه أن يصونه بالإعراض عن الخائضين فيه، قال جل شأنه: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)[الْأَنْعَامِ: 68]. 

ومن وسائل الثبات على اليقين بالله لزوم طاعته وكثرة عبادته، ومجالسة الصالحين، وتَرْك المعاصي والاستغفار من الذنوب، وتعلُّم العِلْم النافع، والتأمُّل في أسماء الله وصفاته، وملاحَظة آثارِها في النفس والكون، وجِماعُ ذلك الإكثارُ من تلاوة القرآن العظيم، والعمل بما فيه، ودوامُ الافتقار إلى الله، ومَنْ لَقِيَ الله موقنًا بوحدانيته دخَل الجنةَ، قال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "مَنْ لَقِيتَ مِنْ وراء هذا الحائط يشهَد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ مستيقنًا بها قلبُه فبشره بالجنة"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ). 

وبعدُ أيها المسلمون: فالرب هو الحق الذي لا مِريَةَ فيه، اسمُه الحقُّ والحقُّ صفتُه، ووجودُه أعظمُ الحقائقِ ثبوتًا؛ قال جل شأنه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ)[الْحَجِّ: 62]، واليقين بأصل الإيمان شرطٌ من شروط لا إله إلا الله، ولا إيمان مع الشك أو التردد، والناس في اليقين متفاوتون، والحاجة إلى زيادةِ اليقينِ وتثبيتِه مُلِحَّةٌ في كل حين، وتزداد الحاجةُ إلى زيادة اليقين عندَ توارُد الشبهات، والمؤمنُ حسيبُ نفسِه يتفقَّدُها عندَ وُرُود الشكوكِ والرِّيَبِ؛ فإذا أحسَّ بضَعْف اليقين فزع إلى ما يقويه وأسرع إلى ما يثبته، والعلم واليقين يجده الإنسان من نفسه كما يجد سائر إدراكاته وحركاته، ومن رزق اليقين لم يرجع عن دينه سخطة له، وترقى في مدارج العبودية حتى يبلغ الدرجات العلا. 

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ)* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الْوَاقِعَةِ: 95-96]. 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، ونفعني اللَّهُ وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفِر اللَّهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم. 

الخطبة الثانية: 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا. 

أيها المسلمون: أصلُ الإيمانِ لا يثبُت ولا يُثمِر إلا إذا تعاهَدَه صاحبُه بالإصلاح، والعبدُ لا يبلغ حقيقةَ الإيمان حتى ينتفِي عنه الريبُ، ويَجزِم بصدقِ الرسالاتِ، ويُوقِن بكمالِ الربِّ، ويعبده وحدَه دون سِوَاهُ، ويُوقِن بالبعث بعدَ الموت، وعلى هذه الأصول مدارُ الرسالاتِ كُلِّها. وأختتم فضيلته تلك الخطبة بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الدعاء..

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة