U3F1ZWV6ZTM1NTgxMTY5NjA2OTA3X0ZyZWUyMjQ0NzY3ODUyMjQwMg==

خطبة الجمعة من الحرم المكي 14 محرم 1444

خطبة الجمعة من الحرم المكي 14 محرم 1444

ألقى فضيلة الشيخ د / عبدالله بن عواد الجهني من منبر الحرم المكي بمكة المكرمة 14 محرم 1444 خطبة بعنوان الأمور الحقيقية لانشراح الصدر ذكر ان العبد الفطن هو من يحاسب نفسه ويعمل لما بعد الموت وان اللذة الحقيقية في انشراح الصدر وراحة النفس بأن يتَّسِع وينفسح ويستنير بنور الإيمان ويحيا بضوء اليقين بالله -عز وجل  وكذالك ذكر بعض أسباب انشراح الصدر ...الخ 

صورة الشيخ عبدالله بن عواد الجهني

عنوان الخطبة الأمور الحقيقية لانشراح الصدر

الخطبة الأولى: 

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]. 

أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار. 

أيها الناسُ: أُوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، وأن نُخلص له الأعمالَ، ونُراقِبَه في جميع الأحوال، وأن نتقرَّب إليه من طاعته بما يرضيه، ونتجنَّب مساخِطَه ومناهِيَه، فقد صحَّ عن نبينا -صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا- أنَّه قال: "الكيِّس مَنْ دانَ نفسَه، وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَنْ أتبَع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ"، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: "حاسِبُوا أنفسَكم قبلَ أن تُحاسَبوا، وَزِنُوها قبلَ أن تُوزَنُوا، وتأهَّبوا للعرض الأكبر على الله"؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الْحَاقَّةِ: 18].

واعلموا -عبادَ اللهِ- أنَّ أيسرَ الناسِ حسابًا يومَ القيامة الذين حاسَبُوا أنفسَهم لله في هذه الدنيا، فوقفوا عند هموهم وأعمالهم، فإن كان الذي همُّوا به لله مضَوْا فيه، وإن كان عليهم أمسكوا، وإنَّما يَثقُل الحسابُ يومَ القيامة على الذين جازَفُوا الأمورَ، فأخذوها من غير محاسَبة، فوجدوا اللهَ قد أحصى عليهم مثاقيلَ الذرّ.

عبادَ اللهِ: لا لذةَ للحياة، ولا طِيبَ للعيش إلا بانشراح الصدر، وراحة النفس؛ بأن يتَّسِع وينفسح ويستنير بنور الإيمان ويحيا بضوء اليقين بالله -عز وجل-، وهذا مطلبٌ من مطالب الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وهو علَامة سعادة العبد وهدايته، وأنَّ اللهَ قد هداهُ ومنَّ عليه بالتوفيق وسلوك أقوم الطريق؛ قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الْأَنْعَامِ: 125]، وتلا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم- قوله -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ)[الْأَنْعَامِ: 125]، فقال رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا-: "إنَّ النورَ إذا دخَل الصدرَ انفسَح"، فيقل: يا رسول الله، هل لذلك مِنْ عِلْم يُعرَف؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله"(رواه الحاكم)؛ فالهُدَى والتوحيدُ من أعظم أسباب شرح الصدور، وبدونهما قد يجد المرءُ راحةً نفسيةً في مبدأ من المبادئ، وتلك راحة مؤقَّتة، وانشراح خادع، لا يلبث إلا أن ينقلب حسرةً وضِيقًا، وأمَّا الشركُ والضلالُ فمن أعظم أسباب ضيق الصدر. 

ومن أسباب انشراح الصدر كثرة قراءة القرآن، ويزداد الصدر انشراحًا بتجويد حروفه، ومعرفة وقوفه، وتدبُّرِه، وكذلك العلمُ بسنته -صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم -، تواترًا وأحادًا، قولًا وعملًا وتقريرًا؛ فإِنَّ كلَّ ذلك يشرح صدرَ المؤمن ويوسِّعه حتى يكون أوسع من الدنيا. 

ومن أسباب انشراح الصدر الإيمان بالقَدَرِ خيره وشرِّه، حُلوِه ومُرِّه، والرضا عن الله -عز وجل- في كل أحواله، فإذا عَلِمَ الإنسانُ أنَّ ما أصابَه لم يكن لِيُخطِئَه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن لِيُصِيبَه ما كان فَرِحًا بما أُوتِيَ، ولا يائسًا على ما فاته؛ لأنَّ العبدَ إذا اعتقد جازمًا أن كل شيءٍ مِنَ اللهِ -تبارك وتعالى-، وأن الله لا يفعل إلا الخيرَ، اطمأنَّت نفسُه، وتقبَّل ما قُدِّرَ عليه بارتياح، قال صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم : "عجبًا لأمرِ المؤمنِ، أمرُه كلُّه خيرٌ، إِنْ أصابَه سراءُ شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَه ضراءُ صبَر فكان خيرًا له"(رواه مسلم)، ونحن إزاء القدر نجهل الغيب، ونجهل المصلحة الغائبة، فإذا وكَّلْنَا الأمرَ لله عالِم السرِّ وأخفى، سواءٌ انكشفت لنا ولم نُميِّزها نجزم بأن الخير فيما اختاره الله -عز وجل-، فخِيرَةُ اللهِ لعبده خيرٌ من خيرته لنفسه، وكما ورَد في الأثر: "لو اطلعتُم على الغيب لاخترتُم الواقعَ". 

ومن أسباب انشراح الصدر أيضًا الإحسان إلى الخَلق ونفعهم، بما يُمكِن من المال والجاه، فإنَّ الكريم المحسِن أشرحُ الناسِ صدرًا وأطيبُهم نَفْسًا، والبخيلَ الذي ليس فيه إحسانٌ لأحد، أضيقُ الناس صدرًا، وأنكدُهم عيشًا. 

وإن لزوم جماعة المسلمين مما يُطهِّر القلبَ من الغُلُوّ والغش؛ فإن المسلم للزومه جماعةَ المسلمينَ يُحِبّ لهم ما يُحِبّ لنفسه، ويكرَه لهم ما يكرَه لها، بخلاف مَنِ انحاز عنهم، وانشَغَل بالطعن عليهم، والذم لهم، فاتقوا الله -عباد الله-، وقَوُّوا صِلَتَكم بالله، وأحسِنُوا متابعتَكم لرسولكم -عليه الصلاة والسلام- تَسعَدُوا وتُفلِحوا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزُّمَرِ: 22]. 

اللهم اشرح صُدُورَنا، ويسِّر أمورَنا، واغفر ذنوبنا، واختم بالصالحات أعمالنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، إنك أنت الغفور الرحيم. 

الخطبة الثانية: 

الحمد للهِ، الحمد لله مالك الملك، يؤتي ملكهُ من يشاء، وينزعهُ ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويُخرِج الحيَّ من الميت، ويُخرِج الميتَ من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا. 

أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: اتقوا الله حقَّ تقاته، واعتصِموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، والزموا كتابَ ربِّكم، وتمسَّكوا بسُنَّة نبيِّكم -صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم - فيما لكم وعليكم تُفلِحوا وتَرشُدُوا، وأطيعوا ذا أمركم تُوفَّقوا وتسددوا وتنصروا. 

أيها الناسُ: إنَّ الله يُعطي الدنيا للمؤمن وللكافر، ولا يعطي الدينَ إلا لمَنْ يُحِبّ، وقد تعجَّب رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّم - من عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- حين رآه يُصلِح جدارَ بيتِه ويُطيِّنه فأراد أن يُخلِي قلبَه من التعلُّق بالدنيا، ويُذكِّره بقُرب الأجل للاستعداد له فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أرى الأمرَ إلا أعجلَ من ذلك"(رواه أبو داود، الترمذي وابن ماجه)؛ ليجعل الآخرةَ همَّه والاستعدادَ لها شُغلَه، فإذا بالَغ المرءُ في الانصراف إلى إعمار الدنيا والسعي فيها، فيحتاج إلى لفتة من نوعٍ آخرَ؛ (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[الْقَصَصِ: 77]. 

إن الرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها، وتركها للطغاة والمفسدين تطلعا إلى نعيم الآخرة، وإنَّما الدنيا مزرعة للآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء والظلم عن أهلها، وتحقيق الخير والعدل للناس جميعًا، كل أولئك هو زاد الآخرة؛ فيبقى على جادَّة القصد والتوازن. 

وإن العبد المحفوف بالنعيم قد يكون مستدرَجًا لمزيد من المسؤوليَّة والعذاب وهو لا يدري، عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- عن النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلم- قال: "إذا رأيتَ اللهَ يُعطي العبدَ من الدنيا ما يحب، وهو مقيمٌ على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج ثم تلا قوله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[الْأَنْعَامِ: 44]". 

وإن المهتم لآخرته لا يرى الدنيا دار قرار؛ لشعوره بقرب الرحيل إلى دار الخلود، قال عليه الصلاة والسلام: "قال لي جبريلُ: يا محمدُ، عِشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ، وأَحْبِبْ مَنْ شئتَ فإنكَ مُفارِقُه، واعْمَلْ ما شئتَ فإنكَ مُلاقِيه" أخرجه الطيالسي في المسند والبيهقي في شعب الإيمان، وهو حديث حسن؛ فتجارة الآخرة لا تبور، والتهافُت على الدنيا لا يغير المقدور. ثم أختتم تلك الخطبة بالصلاة والسلام على رسوالله صلى الله عليه وسلم ثم الدعاء .

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة